كلمة وزير العدل بمناسبة تقديم مشروع قانون رقم 03.23 بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، أمام مجلس النواب
كلمة وزير العدل بمناسبة تقديم مشروع قانون رقم 03.23 بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، أمام مجلس النواب

كلمة وزير العدل بمناسبة تقديم مشروع قانون رقم 03.23 بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، أمام مجلس النواب
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
السيد الرئيس المحترم؛
السيدات والسادة النواب المحترمون؛
أتشرف اليوم بتقديم مشروع قانون رقم 03.23 بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية أمام مجلسكم الموقر، والذي صادقت عليه لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات في اجتماعها المنعقد بتاريخ 13 ماي 2025 في جلسة طويلة استمرت إلى وقت متأخر من الليل، تم التفاعل خلالها مع ما تقدم به السيدات والسادة النواب المحترمون من تعديلات من شأنها تعزيز مضامين مشروع القانون شكلا ومضمونا والتي وصلت في مجموعها 1384 تعديلا تم التفاعل إيجابا مع جزء مهم منها، في حين لم يتم الاستجابة لباقي المقترحات التي كان جزء كبيرا منها مرتبط باقتراحات الصياغة أو تعديلات في المضمون تخالف المحددات الأساسية التي بني عليها النص سواء فيما يرتبط بمرجعيات الإصلاح أو لمبررات تقنية قانونية محضة، أو بالنظر إلى ما قد يتطلبه تنفيذ البعض منها إلى إمكانيات بشرية ومادية ضخمة.
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون؛
إذا كان القانون الجنائي يكتسي أهمية بالغة من خلال وظائفه الأساسية خاصة في مجال ضبط سلوكات الأشخاص داخل المجتمع عبر تحديد الأفعال المجرمة وتخصيصها بالجزاءات المناسبة، فإن قانون المسطرة الجنائية لا يقل أهمية عنه باعتباره الأداة التي تخرج القانون الجنائي من دائرة السكون إلى الحركة، فإذا كان مبدأ الشرعية الجنائية يقتضي في شقه الموضوعي بأنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني”، فإن شقه الإجرائي يتطلب التقيد بقاعدة ” لا عقوبة إلا بحكم قضائي صادر عن هيئة قضائية مختصة ووفق إجراءات ومساطر قانونية”، وهو ما تتولى أحكام قانون المسطرة الجنائية تأطيره بقواعد إجرائية تراعي مبادئ الضرورة والتناسب والشرعية.
وتزداد أهمية قانون المسطرة الجنائية في تشعباته وارتباطات مجالات تنظيمه والتي تلامس مجالين تختلف سبلهما وغالبا ما يقع أثناء السعي إلى الوصول إليها من طرف المتدخلين في المنظومة الجنائية إلى الدخول في جدل ومواجهة قانونية، ويتعلق الأمر من جهة بالسعي إلى التثبت من وقوع الجريمة وضبط مرتكبيها ومحاكمتهم، ومن جهة ثانية بالبحث عن البراءة وما يتطلبه ذلك من توفر شروط وضمانات المحاكمة العادلة، وهي معادلة صعبة تحتاج إلى قواعد قانونية تحقق التوازن بين شراسة الجريمة وتهديدها لأمن الإنسان وسلامة المواطن في بدنه وممتلكاته من جهة، وبين حماية الحقوق الأساسية للأفراد كما أقرتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ودستور المملكة من جهة ثانية.
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون؛
إننا لسنا أمام قانون عادي بمعيار مضمونه ووظائفه، إنه دستور للعدالة الجنائية إن صح التوصيف، فبقدر ما تتسلح به أجهزة إنفاذ القانون في مواجهة خطر الجريمة وضبط مرتكبيها ومحاكمتهم، بقدر ما يستند إليه أطراف الخصومة الجنائية للدفاع عن حقوقهم ومطالبهم فهو عملة بوجهين.
وتبقى مسألة صناعة مثل هذه القوانين لحظة فارقة ومميزة في المسار الديموقراطي للدول لا تعاش إلا في محطات معدودة، كما هو الحال بالنسبة للمغرب الذي عرف منذ فجر الاستقلال إلى حدود يومه فقط نصين قانونيين للمسطرة الجنائية، أولهما في سنة 1959 وذلك قبل صدور مجموعة القانون الجنائي لسنة 1963، وثانيها سنة 2003. فصلت بينهما مرحلة مؤقتة عرفت تطبيق ظهير الإجراءات الانتقالية الذي للأسف تجاوز طابعه الانتقالي وعمر ما يقارب ثلاثة (3) عقود من الزمن.
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون؛
تأكدوا أنني أعي جيدا كما تعون قيمة وأهمية هذا النص، والذي تتبعت مسارات إعداده وأسباب تعثر تمريره في حكومات سابقة، وحرصت كل الحرص على استحضار النقاشات الدائرة حوله والسعي إلى فتح نقاشات موسعة مع كل المتدخلين والمخاطبين بأحكامه من أجهزة حكومية وقضائية وأمنية ومهنية، وفتحت باب المشاورة مع العديد من المؤسسات والهيئات الدستورية كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي … كما تتبعت كل النقاشات الدائرة حوله والآراء المقدمة بشأنه.
وإذا كان المتتبع للقراءات المقدمة حول المشروع منذ طرحه على المسار التشريعي قد يلاحظ تعددها بين قراءات مهنية وحقوقية وجامعية وسياسية اتسمت للأسف أحيانا بطابع ” الذاتية السياسية” التي قد تكون مقبولة لاختلاف المرجعيات والإديولوجيات وسقف وحدود الإصلاح المرتقب، بينما لا تقبل إذا كانت ستوظف لتعطيل النفع العام وخلق نقاشات هامشية حول قانون لا يقبل التجزئة بين مصالح فئوية أو اعتبارات سياسية، كقانون المسطرة الجنائية الذي يخاطب الخاضعين لأحكامه بتجرد وبدون أوصاف حسب طبيعة مراكز أطراف الخصومة الجنائية.
ومن هذا المنطلق، فقد حرصت كل الحرص على أن يستجيب المشروع لمختلف التطلعات وأن يسعى إلى مواكبة المجهودات المبذولة على مستويات متعددة للنهوض بحقوق الإنسان وتعزيز مجال الحقوق والحريات من جهة ومكافحة الجريمة من جهة ثانية.
ويعد هذا المشروع محطة تاريخية استثنائية هامة لمنظومة عدالتنا الجنائية لاسيما في إطار ما شهدته بلادنا في العقدين الأخيرين من مستجدات هامة شملت مستويات متعددة خاصة فيما يرتبط بتعزيز مجال الحقوق والحريات والانخراط التام في الالتزامات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان ومكافحة الجريمة، وكذا ما يتعلق بتطوير عمل المؤسسات لاسيما ما يرتبط بتدبير المرحلة الانتقالية التي تعيشها بلادنا بخصوص إحداث سلطة قضائية مستقلة وفق ما نص عليه دستور المملكة.
وهو المشروع الذي يتماشى في فلسفته التشريعية مع باقي القوانين التي صدرت مؤخرا كالقانون رقم 10.23 المتعلق بتنظيم وتدبير المؤسسات السجنية وكذا القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة والعديد من مشاريع القوانين الإصلاحية في الميدان الجنائي التي تنتظر دورها للإحالة على المسطرة التشريعية في إطار برنامج طموح لإصلاح منظومة العدالة الجنائية.
لقد تحكمت في إعداد مشروع قانون المسطرة الجنائية مجموعة من المحددات الأمنية والحقوقية وإشكالات الممارسة العملية ومسألة تحقيق فعالية ونجاعة العدالة الجنائية ومواكبتها بالإصلاحات التي تعرفها منظومة العدالة ببلادنا، كما استحضرت المراجعة مجموعة من المرجعيات الوطنية والدولية وفق ما هي مفصلة في ديباجة المشروع.
وفي هذا الإطار، أود أن أتقاسم معكم بعض المعطيات لاستحضارها في فهم فلسفة وحدود هذه المراجعة التشريعية القائمة أساسا على ضمان التوازن بين مكافحة الجريمة واحترام حقوق وحريات الأفراد باعتبارها المفصل في بناء قاعدة أي جنائية إجرائية في التشريعات الجنائية المعاصرة. خاصة وأنه أثيرت العديد من الملاحظات حول بعض مستجدات القانون في مجال تقوية وتعزيز آليات مكافحة الجريمة:
- الحاجة إلى ملاءمة قانون المسطرة الجنائية مع تطور تدويل القاعدة الجنائية في ظل تفاعل المملكة المغربية في إطار الوفاء بالتزاماتها الدولية مع جل المواثيق الدولية وما يصدر من آلياتها من توصيات سواء التي تهم مجال مكافحة الجريمة أو حقوق الإنسان؛
- مواجهة خطر الجريمة الذي شكل حسب المعطيات الإحصائية المتوفرة ارتفاعا فيما يخص معدل الجريمة إلى ما يقارب الضعف ما بين صدور قانون المسطرة الجنائية لسنة 2003 وعرض المشروع الحالي على المسطرة التشريعية، شكلت منها الجنايات والجنح نسبة %2 والجرائم ضد الأموال %15.7 مع تزايد مقلق للعديد من الجرائم المستحدثة كالجرائم السيبيرانية والابتزاز الإلكتروني ومخاطر وتهديدات الجريمة المنظمة، علما أن هناك تحسن على مستوى نسب الزجر بفعل الجهود الأمنية والقضائية؛
- اقتضت ضرورة التعاون الدولي في مجال مكافحة الجريمة المنظمة خاصة في ظل إبرام المغرب لأكثر من 90 اتفاقية ثنائية مع دول أجنبية ضرورة تأطير العديد من آلياته وملاءمتها مع المعايير المعتمدة في هذا الإطار؛
- استمرار العديد من أزمات العدالة الجنائية التي تتطلب تدخلا آنيا، كمشكل اكتظاظ المؤسسات السجنية (ما يفوق 105 ألف سجين) وارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي رغم المجهودات المبذولة لترشيده (%32 من الساكنة السجنية) وعدد الأشخاص المودعين رهن الحراسة النظرية (400 ألف شخص سنويا) وعدد المقدمين أمام المحاكم (500 ألف شخص سنويا) وتضخم عدد القضايا الزجرية؛
- ضبط وتدقيق العديد من الإجراءات والمساطر الجنائية في إطار تأكيد الشرعية وتبسيطها وتحقيق النجاعة المطلوبة، عبر اعتماد مساطر مبسطة وتعزيز العدالة التصالحية ….؛
- إضفاء البعد الإنساني على مرحلة التنفيذ الزجري من خلال توسيع فرص الإفراج ومساطر التأهيل وإعادة الإدماج كالسجل العدلي ورد الاعتبار القانوني والقضائي والإفراج المقيد وأداء الغرامات المالية؛
- اعتماد فرص واستخدامات الرقمنة في مجال الإجراءات الجنائية.
أما فيما يخص ضمانات المحاكمة العادلة وتعزيز مجال الحقوق والحريات، فقد حرص المشروع على تقوية القانون بمجموعة من الضمانات خلال كافة مراحل الدعوى العمومية وملاءمتها مع المعايير الدولية المعتمدة، وأن ما أثير من ملاحظات بشأن البعض منها يقتضي استحضار التدرج وتوفير الوسائل اللوجيستيكية والبشرية اللازمة، وأن ما أثير أيضا بخصوص مركز الجمعيات في الدعوى العمومية والدعوى المدنية التابعة فإنه باطل أريد به حق، فالممارسة كشفت اختلالات في هذا الإطار وأن ما ورد من تعديلات على المادتين الثالثة والسابعة هو ليس بتقييد كما يدعون، وإنما ضبط وإعادة تنظيم ما يراعي قرينة البراءة من جهة، ويفتح المجال لمؤسسات الدولة وهيئات الرقابة المختصة لممارسة صلاحياتها انطلاقا مما تملكه من آليات وإمكانيات تؤهلها لحراسة المال العام.
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون؛
لقد حرصت وزارة العدل منذ الشروع في مناقشة هذا المشروع أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلسكم الموقر على رصد جميع الملاحظات والمقترحات المقدمة، بهدف بلورة تصور شامل ومتكامل على مستوى تطوير المنظومة الإجرائية الوطنية، وصولا إلى صيغة تحقق الأهداف والغاية المتوخاة من سن هذا المشروع وفق النظريات الحديثة للأنظمة الجنائية الإجرائية التي أصبحت تتبناها معظم التشريعات المقارنة، وهو ما تم بالفعل، حيث ساهمت التعديلات المقترحة على مواد مشروع القانون في تجويد النص ليواكب التطورات الحاصلة ويؤسس لعدالة إجرائية ناجعة تهدف إلى تجاوز الإشكالات التي تطرحها الممارسة العملية في العديد من الإجراءات التي أثبتت التجربة عدم جدواها في تحقيق العدالة الجنائية وقصورها في مكافحة الجريمة بمختلف تمظهراتها.
وتتجلى أهم التعديلات التي تمت الاستجابة إليها من طرف هذه الوزارة وصادقت عليها لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلسكم الموقر في:
- إعادة صياغة بعض العبارات بهدف تجويد النص وتحقيق الانسجام مع باقي المقتضيات الواردة بالمشروع؛
- تعزيز حماية ضحايا الاتجار بالبشر من خلال التنصيص على مجموعة من التدابير تروم حماية سلامتهم وتقديم الخدمات الضرورية بما فيها المساعدات الطبية والنفسية اللازمة والإيواء والتعريف بحقوقهم القانونية وكذا حقهم في المطالبة بالحصول على تعويض عن الأضرار التي لحقت بهم؛
- تمكين ضحايا الاتجار بالبشر من الاستفادة من مهلة للتعافي والتفكير خلال مدة محددة إذا توافرت أسباب جدية بكونهم ضحية الفعل الجرمي المذكور وذلك تماشيا مع الالتزامات الدولية للمملكة في هذا الإطار؛
- التنصيص على ضرورة احترام الضمانات القانونية أثناء سير إجراءات التحقيق؛
- التنصيص على مقتضيات إضافية تروم تعزيز حقوق الدفاع خلال مرحلة التحقيق الإعدادي؛
- تعزيز استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة في مختلف الإجراءات القانونية؛
– التنصيص على منع حضور النيابة العامة أثناء مداولات المحكمة؛
– التنصيص على إمكانية رد الاعتبار فيما يخص عقوبة الغرامة وذلك بمجرد أدائها؛
– التنصيص صراحة على عدم اعتبار الصمت بمثابة اعتراف ضمني بما هو منسوب للشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية.
حضرات السيدات والسادة النواب المحترمون؛
إن هذه المبادرة التشريعية التي تجسد بلا شك خطوة مهمة لتحديث الترسانة القانونية الوطنية، والاستجابة للتطلعات والإنتظارات، والتي سنحرص على الترافع بشأنها خلال المرحلة القادمة من المناقشة أمام مجلس المستشارين بعد مصادقة مجلسكم الموقر، كما سنعمل بكل مسؤولية على التواصل بشأن مستجداتها والتنسيق مع كل الجهات المعنية بتنفيذ أحكامها إيمانا بأن الممارسة تبقى هي المحك الحقيقي للتنزيل الأمثل لمضامينها.
وفي الختام، اسمحوا لي أن أغتنم المناسبة للتنويه بمختلف جهود السيدات والسادة النواب المحترمون الذين شاركوا في مناقشة هذا المشروع بحس عال من الجدية والمسؤولية، ولتحملهم ساعات طوال من النقاش والتفاعل البناء، كما أجدد الشكر والامتنان لكم السيد رئيس مجلس النواب والسيدات والسادة أعضاء لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان والحريات على تعاونها الدائم والمستمر، مثمنين جهودها الكبيرة وتجاوبها في إخراج العديد من النصوص القانونية خدمة للعدالة الصالح العام.